عبد اللّه بن راضي الشمري
للعِلم في الإسلام مكانة عظيمة .. كيف وأول ما أنزل من الكتاب: " اقرأ
".. بل جعل الله - تعالى -العلم من الأدلة الدالة على وحدانية الخالق -
سبحانه - فقال - تعالى -: (عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ).. وطلب
العلم سبب للرفعة في الدنيا والآخرة..
وحديثي معكم لن يكون عن مكانة العلم وفضله.. بل عن أمر مهم.. هو ثمرة العلم والغاية منه..
وإن كانت آثار العلم كثيرة.. إلا إنّ من أهمِّ آثار العلم.. هو أثرُه
الكبير على صاحبه عالماً ومتعلماً.. دارساً ومدرساً.. وأقصد بالأثر.. هو
أثر العلم على صاحبه وطالبه.. أثره في أخلاق العالم والمتعلم.. في الأدب
والتزكية والخشية والبذل والعطاء.. وجامع ذلك الأخلاق الربانية..
فما هي أخلاق أهل العلم وطلابه اليوم؟!!
إنّ الغاية الحقيقة من العلم سواء ديناً أو دنيوياً هي الخشية والأدب..
إذ إن رفعة العالم والمتعلم لا تكون إلا بالآداب الجملية.. والخصال
الجليلة.. والتي بها يبلغ المتأدبُ والمؤدب بها وبأمثالها أسمى المراتب..
وأعلى المنازل.. وأشرف المقامات.. ويصل بها إلى ما يرجو من فلاح وصلاح وحسن
مآب..
فالأمم لا تتقدَّم بحشو المعلومات.. إنما تتقدَّم بتربية تعمل على غرس
القيم وبناء المبادئ.. لتجعل منها واقعاً عملياً.. لا بمحفوظات تلوكها
الأفواه ثم تفرّغ في قاعات الامتحان.. دون أن يكون لها رصيد من الواقع..
وأثر يُتحلَّى بها في السلوك...
ما قيمة العلم إذا كان صاحبه كذوبا خؤونًا.. يتمرّغ في الرذيلة.. وينقض
مبادئَ التربية عروةً عروة بسلوكه وأخلاقه؟! ما قيمة التعليم إذا لم يظهر
أثره على طالب العلم في أدبه مع العلم.. وفي أدبه مع أساتذته.. وفي أدبه مع
إخوانه وكتبه؟! وفوق ذلك نشره للأخلاق والعلم في مجتمعه..
ولأهمية هذا الجانب في العلم.. فقد نص عليه القرآن.. يقول - تعالى -:
(هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو
عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ).
وتأمل في قوله - تعالى -: " ويزكيهم ".. إذ أن الزكاة في الأخلاق والحياء
من الله ونشر الخير ومحاربة الشر هي من أهم آثار العلم ّ!!
تقول أمّ سفيان الثوريّ الذي غدا في عصره علَمًا وبين أقرانه نجمًا
ساطِعًا: "يا بنيّ، خذ هذه عشرة دراهم، وتعلّم عشرةَ أحاديث، فإذا وجدتها
تُغيِّر في جلستِك ومِشيتك وكلامك مع الناس فأقبِل عليه، وأنا أعينُك
بمِغزلي هذا، وإلاّ فاتركه، فإني أخشَى أن يكونَ وبالاً عليك يومَ
القيامة"!!
إذاً هذه الغاية الحقيقة من العلم.. وهي الأخلاق.. والتربية على الخوف من الله..
ولهذا فلما خلى العلم في عصرنا من هذا التزكية صار التعليم ضررُه أكثر من
نفعِه.. فالتقدّم التقنيّ في الأطباق الفضائيّة مثلاً سُخِّر للعُريِ
الماجن والمُجون الفاضح وقتلِ الحياء ووأدِ الفضيلة وتلويثِ العقول
بالأفكار المنحرِفة؟!! وكذا التقدّم العلميّ في الحضارةِ المادّية المعاصرة
ولّدَ قوى عُظمى.. لكنّها قوى همجيّة.. لا أخلاقَ تردَعُها.. ولا قيَم
تهذِّبها.. قوَى سيطرةٍ واستبدادٍ وامتصاصِ ثرواتِ الضعفاء وسَحق
الأبرياء.. هذه الحضارة المادّيّة ولّد عِلمُها الذي لم يهذِّبه دينٌ.. ولم
يقوِّمه خُلقٌ.. جيوشًا جرّارة.. ترتكِب المذابح.. وتنحَر السلام..
وتغتصِب الفتيات..
ولهذا وجد عندنا علماء.. وأدباء.. ومفكرين.. إلا أنهم أناس تملصوا من
دينهم!! وحاربوا ربهم!! وصاروا دعاة على أبواب جهنم بنشره للفاحشة..
والفساد.. والمجون.. وكل ذلك باسم العلم والحضارة الزائفة!!
فأين علمهم؟! وكيف كانت نهايتهم؟!!
و
العلم اليوم والحضارة المتولدة عنه.. وهذه الثّورةُ العلميّة المادّية..
بسبب بعدها عن الدين أبحت وبالاً على الناس.. لم توفِّر للناس طمأنينةَ
القلب.. وسكينةَ النفس.. وهدوءَ الأعصاب.. والأمنَ الشّامِل.. والسلامَ
العادل.. بل
فالعالم مع علمه وحضارته إلا أنه عالم ينزِف من ويلاتِ القتل الجماعيّ..
والتدمير الإباديّ.. والتفجير الذي ينشُر الأشلاء.. العالَم اليوم يئنّ من
موتِ الضمير.. وفقدانِ الأخلاق.. فالسّرقة والاختلاس والغشّ والرّشوة وغير
ذلك من الأخلاق الباطلة..
كل ذلك بسبب فقد العلم للتربية والأخلاق؟!