حسام العيسوي إبراهيم
ما أحلى أن يصل العبد إلى هذه المرتبة! أن يكون حبيباً للرحمن - جل
وعلا-، لا شك أنها مكانة عظيمه، تتسابق عليها العقول الصحيحة، والفطر
السليمة، ويسعى إليها أصحاب الهمم العالية، والمقامات الرفيعة، فحينما
يقرأ المسلم قوله تعالى: ( يحبهم ويحبونه)، ( رضي الله عنهم ورضوا عنه )
يتساءل كيف أصل إلى هذه المرتبة، وهذا الحب، وذلك الرضى؟ لا شك أن هناك
وسائل لذلك، ولكن أهمها كما قال الحق- تبارك وتعالى- في حديثه القدسي: ((
من عادي لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما
افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته
كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها ورجله التي
يمشي بها ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)) [رواه البخاري].
فتضمن هذا الحديث الشريف الإلهي- الذي حرام علي غليظ الطبع كثيف القلب فهم
معناه والمراد به- حصر أسباب محبته في أمرين: أداء فرائضه والتقرب إليه
بالنوافل.
وأخبر - سبحانه - إن أداء فرائضه أحب مما يتقرب إليه المتقربون ثم بعدها
النوافل وأن المحب لا يزال يكثر من النوافل حتى يصير محبوباً لله، فإذا صار
محبوباً لله أوجبت محبة الله له محبة منه أخرى فوق المحبة الأولى فشغلت
هذه المحبة قلبه عن الفكرة والاهتمام بغير محبوبه وملكت عليه روحه ولم يبق
فيه سعة لغير محبوبه البتة فصار ذكر محبوبه وحبه مثله الأعلى مالكاً لزمام
قلبه مستولياً على روحه استيلاء المحبوب على محبه الصادق في محبته التي
قد اجتمعت قوى حبه كلها له، ولا ريب أن هذا المحب إن سمع سمعَ لمحبوبه،
وإن أبصر أبصرَ به، وإن بطش بطشَ به، وإن مشى مشى به فهو في قلبه ومعه
ومؤنسه وصاحبه.
وكنا قد تحدثنا في اللقاء السابق عن بعض الفرائض عن طريق حديثنا عن الرجل
الذي تعلق قلبه بالمساجد، ونعيش اليوم مع النوافل وأهميتها وفضلها، يقول
ابن دقيق العيد:
في تقديم النوافل على الفرائض، وتأخيرها عنها معنى لطيف مناسب:
أما
في التقديم: فلأن النفوس لانشغالها بأسباب الدنيا، بعيدة عن حالة الخشوع
والخضوع والحضور التي هي روح العبادة، فإذا قدمت النوافل على الفرائض أنست
النفس للعبادة، وتكيفت بحالة تقرب من الخشوع.
وأما تأخيرها عنها، فقد ورد أن النوافل جابرة لنقص الفرائض، فإذا وقع في الفرض خلل ناسب أن يقع بعده ما يجبر الخلل الذي يقع فيه.
وإليك أخي العزيز ثواب بعض النوافل التي حثنا عليها النبي - صلى الله عليه وسلم -:
1- راتبة الفجر (الصبح):
يتأكد صلاة ركعتين قبل صلاة الصبح، والمحافظة عليها؛ لحديث عائشة - رضي
الله عنها - قالت: " لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - على شيء من
النوافل أشد تعاهداً منه على ركعتي الفجر، وقال: (( ركعتا الفجر خير من
الدنيا وما فيها )) [رواه مسلم].
ويسن التخفيف فيهما، والإسرار فيهما، والحكمة في ذلك المبادرة إلى صلاة
الصبح في أول الوقت، واستفتاح صلاة النهار بركعتين خفيفتين؛ ليدخل في الفرض
بنشاط، واستعداد تام، ويسن أن يقرأ فيهما بـ: " قل يا أيها الكافرون "،
وبـ " قل هو الله أحد".
قال
ابن عمر - رضي الله عنهما -: رمقت النبي صلى الله عليه يقرأ في الركعتين
قبل الفجر: " قل يا أيها الكافرون " و " قل هو الله أحد " [رواه الترمذي].
ويستحب أن يضطجع بعدها على جنبه الأيمن؛ لما ثبت في الصحيح من حديث عائشة -
رضي الله عنها - قالت: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى
ركعتي الفجر، اضطجع على جنبه الأيمن " [رواه البخاري ومسلم].
وعن
أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (( إذا
صلى أحدكم ركعتين قبل صلاة الفجر، فليضجع على جنبه الأيمن)) [صححه
الألباني في صحيح سنن أبي داود].
ويستحب أن يقضيها إذا فاتته لما رواه الترمذي وغيره:
عن
أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((
من لم يصل ركعتي الفجر، فليصلهما بعدما تطلع الشمس)) [الترمذي والنسائي].
2- سنة الظهر:
فعن
أم حبيبة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
(( من صلى في يوم وليلة ثنتي عشرة ركعة بنى الله له بيتاً في الجنة:
ركتين قبل الفجر، وأربعاً قبل الظهر، وركتين بعدها، وركعتين بعد المغرب،
وركعتين بعد العشاء))[رواه الترمذي والنسائي].
وعنها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (( من حافظ على
أربع ركعات قبل الظهر، وأربع بعدها حَرُم على النار)) [صحيح سنن أبي داود
للألباني].
وعن
أبي أيوب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (( أربع
قبل الظهر ليس فيهن تسليم، تفتح لهن أبواب السماء)) [صحيح سنن أبي داود
للألباني].
3- سنة العصر:
فعن
عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قال: (( رحم الله امرأً صلى قبل العصر أربعاً )) [صحيح سنن أبي داود
للألباني].
وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي قبل العصر ركعتين. [صحيح سنن أبي داود للألباني].
وعن
أم سلمة - رضي الله عنها - قالت: شغل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن
الركعتين قبل العصر فصلاهما بعدها [رواه النسائي بإسناد حسن].
4- سنة المغرب:
فللمغرب سنة قبله، وسنة بعده، فأما الأولى فقد ورد عن عبد الله بن مغفل -
رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( صلوا قبل
المغرب ركعتين، صلوا قبل المغرب، وفي الثالثة قال: لمن شاء؛ خشية أن يتخذها
الناس سنة)) [صحيح سنن أبي داود].
وفي
رواية لمسلم: " كانوا يصلون ركعتين عند أذان المغرب حتى إن الرجل الغريب
ليدخل المسجد فيحسب أن الصلاة قد صليت من كثرة من يصليها ".
وأما بعد المغرب، فقد ورد عن عائشة وابن عمر - رضي الله عنهما - " أن
النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي بعد المغرب ركعتين " [رواه البخاري
ومسلم].
5- سنة العشاء:
يستحب صلاة ركعتين قبلها، لعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (( بين
كل أذانين صلاة)) وفي الثالثة قال: (( لمن شاء )) [رواه البخاري] وهذه غير
مؤكدة أما المؤكدة فبعدها.
والمقصود بالأذانين أي الأذان والإقامة، وحكمة مشروعية الصلاة بينهما: أن
المقصود من الأذان الإعلام بدخول وقت الصلاة ليتأهب الناس للصلاة بالطهارة،
ويحضروا لتأديتها، ووصل الأذان بالإقامة يفوت هذا المقصود.
ويستحب بعد صلاة العشاء ركعتان أو أربع بعد صلاة العشاء؛ لحديث عبد الله
بن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كان يصلي قبل الظهر ركعتين،
وبعدها ركعتين، وبعد المغرب ركعتين في بيته، وبعد صلاة العشاء ركعتين، وكان
لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف فيصلي ركعتين" [صحيح سنن أبي داود
للألباني].
وكان أحياناً يصلي أربعاً بعد العشاء، مثنى مثنى، ثم يوتر.
فعن
عائشة - رضي الله عنها - قالت: " ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
العشاء قط ودخل علي إلا صلى أربع ركعات أو ست ركعات " [رواه أحمد
وأبوداود والنسائي].
6- سنة الجمعة:
فعن
أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((
إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربعاً)) [رواه مسلم].
وكان تارة يصلي ركعتين:
فعن
ابن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم -
لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف فيصلي ركعتين في بيته "[رواه البخاري ومسلم
وغيرهم]
أخي
الحبيب: فهذه النوافل التي ذكرتها لك يستحب لك أن تصليها في بيتك، وهذا
رأي جمهور الفقهاء والعلماء ومذهب السلف؛ ولذلك قال أحد السلف: إن فضل
صلاة النافلة في البيت، كفضل الفريضة في المسجد، وهذا مأخوذ من وصية النبي
- صلى الله عليه وسلم -: (( إذا صلى أحدكم الصلاة في مسجده، فليجعل لبيته
نصيباً من صلاته، فإن الله جاعل في بيته من صلاته خيراً)) [رواه مسلم في
صحيحه].
وصلاة الفريضة في المسجد، والنافلة في البيت مما يزجر الشيطان ويجعله
يتألم ويحزن، فعن أبي الجلد، قال: لقي عيسى بن مريم - عليه السلام - إبليس،
فقال له: يا إبليس، أسألك بالحي القيوم الذي جعل عليك اللعنة، والذي يسل
جسمك، ويقطع ظهرك؟ فقال إبليس: يا عيسى، لولا أنك سألتني بالحي القيوم ما
أخبرتك، أما الذي يسل جسمي فصهيل الخيل في سبيل الله- يعني في الجهاد-
وأما الذي يقطع ظهري فصلاة الرجل الفريضة في مسجده، والنافلة في بيته ".
لكن ما الحكمة من صلاة النوافل؟
شرعت هذه النوافل التابعة للفرائض لتكفير السيئات، ورفع الدرجات، وترغيم
الشيطان، وقطع طماعيته في منع الإنسان من تأدية الفرائض على الوجه الأكمل،
وتكميل ما عساه يقع من نقص في الفرائض، بنقص شيء من آدابها: كخشوع وتدبر
في قراءة وغيرها، لحديث تميم الداري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
(( أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته، فإن أكملها كتبت له تامة،
وإن لم يكن أكملها، قال الله لملائكته: انظروا هل تجدون لعبدي من تطوع،
فأكملو بها ما ضيع من فريضته، ثم تؤخذ الأعمال على حسب ذلك)) [رواه ابن
ماجة].
ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
(( إن أول ما يحاسب الناس به يوم القيامة من أعمالهم الصلاة يقول ربنا
لملائكته- وهو أعلم -: انظروا في صلاة عبدي أتمها أم نقصها، فإن كانت تامة
كتبت له تامة وإن كان انتقص منها شيئاً، قال انظروا هل لعبدي من تطوع؟ فإن
كان له تطوع، قال: أتموا لعبدي فريضته من تطوعه ثم تؤخذ الأعمال على
ذلك)) [رواه أبو داود وابن ماجه].
أخي
الحبيب: حافظ على الصلاة فهي مرضاة الرب، وحب الملائكة، وعبادة الأنبياء،
ونور المعرفة، وبركة للرزق، وكراهة للشيطان، وقبول للأعمال، ونور للقلب،
فإذا كان يوم القيامة كانت لصاحبها ظلاً وتاجاً على رأسه، ونوراً يسعى بين
يديه، وستراً بينه وبين النار، وثقلاً في الميزان، وجوازاً على الصراط،
ومفتاحاً للجنة.
إلهي:
ببابك عبدٌ من عبيدك مذنب *** كثير الخطايا جاء يسألك العفوا
فأنزل عليه الصبر يا من بفضله *** على قوم موسى أنزل المن والسلوى
اللهم ألهمنا القيام بحقك، وبارك لنا في الحلال من رزقك، ولا تفضحنا بين
خلقك، يا خير من دعاه داع، وأفضل من رجاه راج، يا قاض الحاجات، ومجيب
الدعوات، اغفر لنا وللمسلمين.