لست أدري إن كنت مخطئاً باتخاذي قرار الامتناع عن مشاهدة مقاطع الأفلام التي تُنشر على مواقع التواصل الاجتماعي المتعلقة بما يجري في سوريا. لا يعود ذلك لأن قلبي «رهيّف» ولا أحتمل رؤية مشاهد القتل والتدمير، وليس كذلك استجابة للدعوات التي أُطلقت لمقاطعة موقع «يوتيوب» احتجاجاً على رفضه حذف الفيلم المسيء للرسول الكريم، بل لأنني بكل صراحة أريد تجنّب الحيرة والضياع الذي أشعر به عقب مشاهدة ما يتعرض له الشعب السوري، في مقابل العجز عن دعمه ومساندته.
إلا أن فضولي ورّطني كما في مرات سابقة للضغط على رابط وضعه أحد الأصدقاء على صفحته على موقع «الفيسبوك» لمشاهدة أحد المقاطع الخاصة بالثورة السورية. كان المقطع عبارة عن سبعة شبان سوريين متناثرين في غرفة ملطّخة أرجاؤها بدمائهم، يتعرّضون لتعذيب وحشي من قبل عناصر من الجيش النظامي وشبّيحته. وصل المعذَبون مرحلة متقدمة من الألم لدرجة أنهم لم يعودوا يقوون على الصراخ، فكانت تصدر آهات خفيفة عقب كل سوط يُجلدون به، فهم بالكاد يستطيعون الحركة، يختبئون في أحضان بعضهم، يلفظون أنفاس الحياة الأخيرة والعذاب ينزل بهم، في صور مروّعة، تدفع من يشاهدها إلى التمتمة لا إرادياً: «يا الله.. يا الله».
هو فيلم يضم الى مئات الأفلام الأخرى التي تتضمن صوراً بشعة لممارسات النظام بحق شعبه الثائر، صور أحرجت مخرجي أفلام العنف والرعب السينمائية، وجعلت مخيّلتهم وإبداعهم مجرد أفكار مملّة مكرّرة. فهمجية ما يجري في سوريا وهوله لم يتركا لهؤلاء المخرجين أفكاراً جديدة ليضمّنوها أفلامهم.
إزاء المجازر التي ترتكب يومياً في سوريا، يؤرّقني سؤال كبير أعجز عن إيجاد إجابة له: من أين جاء كل هذا الحقد؟!
كيف لكائن حيّ يقال إنه «بشري» أن يمارس هذه الصنوف من التعذيب بحق كائن بشري آخر؟! كم حجم الكراهية والبغض يحتفظ به هؤلاء في قلوبهم تجاه من يقومون بتعذيبهم وقتلهم وذبحهم وحرقهم وسحلهم ودفنهم أحياء، ورميهم من الشرفات واغتصابهم؟!.هل يُعقل أن يكون التكوين الجسدي لهؤلاء المجرمين مشابهاً لتكوين الكائنات البشرية الأخرى؟! أبين أضلعهم قلب ينبض كباقي البشر، وهل في جمجمتهم دماغ طبيعي يدرك ويوجه ويأمر بما ترتكبه أيديهم..؟!
أحيا الفلسطينيون قبل أيام ذكرى مجزرة صبرا وشاتيلا المروّعة، التي ارتكبتها ميليشيات متطرفة بمساندة جيش الاحتلال الإسرائيلي، قُتل فيها أكثر من ألف فلسطيني ولبناني. رغم التغطية الإعلامية البدائية التي حظيت بها هذه المجزرة، إلا أن صورها ما زالت ماثلة في الأذهان، ممهورة بعبارة «يا فضيحتكن يا ملوك العرب» التي صرخت بها عجوز وهي تنتحب أفراد عائلتها القتلى. جريمة بشعة كانت، لكن الميليشيات يومئذ كانت تعتبر الفلسطينيين أعداء لها، لذلك كانت تحمل لهم الكثير من الحقد والضغينة.
في شهر محرّم من كل عام، تحلّ أيام عاشوراء، التي يستذكر خلالها «إخواننا الشيعة» مظلمة الإمام الحسين رضي الله عنه في التنازع على السلطة، فيسترجعون تفاصيل ما حصل يوماً بيوم، وصولاً إلى اليوم العاشر الذي قُتل فيه. حصلت هذه الأحداث قبل قرابة أربعة عشر قرناً، رغم ذلك يستعيدها «إخواننا الشيعة» وكأنها حصلت أمس، فيحزنون ويبكون وينتحبون ويلطمون، ويعيدون تمثيل ما حصل.
تشكل آلام نبي الله عيسى عليه السلام عنواناً لعقيدة المسيحيين. ومن الشائع بالنسبة إليهم اقتناء تمثال يجسد السيد المسيح مصلوباً، رغم أنه {وَمَاقَتَلُوهُ وَمَاصَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ}. لكن ما أردت الإشارة إليه هو أن ملايين المسيحيين حول العالم يألمون للألم الذي يعتقدون أن السيد المسيح شعر به قبل أكثر من عشرين قرناً.
ما أريد قوله يا سادة، أن الشعب السوري يتعرّض يومياً لمجازر أكثر هولاً من مجزرة صبرا وشاتيلا، والشهداء الذين سقطوا في هذه المجزرة قبل عشرين عاماً يسقطون يومياً في سوريا. كما أن المظلمة التي تعرض لها الإمام الحسين، التي يعتبرها المسلمون الشيعة إحدى ركائز منهجهم، لا تُذكر أمام المظلمة التي يعانيها الشعب السوري، ومثل ذلك بالنسبة إلى المسيحيين. لكن السؤال يعود ليطلّ من جديد: إذاً من أين جاء كل هذا الحقد؟!
كيف لمواطن سوري أن يظلم ويعذب ويقتل ويهين مواطناً آخر، يتشارك معه في كل شيء، في التاريخ والجغرافيا وربما الجينات.. كيف تكوّن كل هذا الحقد والبغض في قلب هؤلاء تجاه أبناء شعبهم، لا لشيء إلا لأنهم يريدون العيش بحرية؟